التعلم عند دافيد أوزوبل: هل المعرفة تكتسب أم تبنى؟


هل نكتسب المعرفة من خلال استقبالها أم نبنيها عبر الاكتشاف؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه دافيد أوزوبل في نظرية التعلم التي طورها. إن أوزوبل يتناول مسألة العلاقة بين المتعلم والمحتوى المعرفي، وبين ما يقدم له وبين ما يبنى داخليا من خلال تفاعله مع الواقع.

أوزوبل، الذي يعد من المفكرين البارزين في مجال علم النفس التربوي، يرى أن المعرفة ليست مجرد استقبال للمعلومات كما هي، بل هي عملية معقدة تتمثل في إدماج المفاهيم الجديدة داخل بنية معرفية قائمة، حيث يرتبط التعلم بإمكانية تكامل تلك المفاهيم الجديدة مع ما هو موجود مسبقا في الذهن. ولكن، إذا كانت المعرفة تتكامل وتبنى بهذه الطريقة، فما الذي يجعلها ذات معنى؟ هل يكفي أن نتلقى المعلومات لكي نعتبرها معرفة؟

من وجهة نظر أوزوبل، لا يمكن للمعرفة أن تعتبر معرفة إلا إذا كانت ذات معنى بالنسبة للفرد. هذا المعنى، في نظره، لا يتحقق إلا عندما تكون المفاهيم الجديدة مرتبطة بما هو موجود مسبقا في العقل. بمعنى آخر، لا يمكن للمتعلم أن يستوعب معلومات جديدة بفعالية إلا إذا كانت تلك المعلومات منسجمة مع بنية معرفية سابقة. لكن هل يتطلب ذلك بالضرورة أن يكون المتعلم موجها من قبل المدرس أو البيئة التعليمية؟ أم أن هذه الفعالية تكمن في قدرته على الاكتشاف؟

في هذا السياق، يبدو أن أوزوبل يطرح حوارا حادا بين التعلم الاستقبالي والتعلم الإكتشافي، فبينما يعزز التعلم الاستقبالي فكرة استقبال المعرفة من مصادر خارجية، فإن التعلم بالاكتشاف يقوم على الفكرة التي ترى أن المتعلم يجب أن يكتسب المعرفة من خلال التجربة المباشرة. لكن، هل يعد التعلم بالاكتشاف هذا، أداة فعالة بما يكفي إذا لم تكن هناك بنية معرفية صلبة تسهم في تنظيم المعلومات الجديدة؟

صحيح، أن ما يميز أوزوبل عن مفكري النمو المعرفي مثل جان بياجي والمناهج السلوكية مثل ثورندايك هو تصوره المعقد والشامل للعملية التعليمية. ففي الوقت الذي يؤكد فيه بياجي على النمو المعرفي التدريجي وعلى فكرة أن المعرفة تتشكل من خلال التفاعلات الداخلية التي تبنى تدريجيا مع تطور الطفل، يقدم أوزوبل منظورا أكثر مرونة وتفاعلا بين المتعلم والمحتوى المعرفي. مع بياجي، ينظر إلى المعرفة كعملية تطور داخلي يتم بناؤها في مراحل مع تطور العمر، مما يجعل المعرفة محكومة بتسلسل محدد من التطورات المعرفية. نجد أوزوبل، يرفض هذا التصور الخطي للتعلم الذي أتى به بياجي، ويرى أن المعرفة يجب أن تبنى في سياق التفاعل بين المتعلم والمحتوى، ولا تقتصر على المرحلة العمرية أو النمو العقلي الفردي للمتعلم. كما أن تركيز أوزوبل على التعلم ذو المعنى يتيح له التأكيد على أهمية ربط المفاهيم الجديدة بالسابق من المعارف، مما يعزز من فهم المعلومات بدلا من الاكتفاء بتراكمها كما في نظرية بياجي .

من جهة أخرى، في المقارنة مع النظرية السلوكية، التي ترى أن التعلم هو مجرد استجابة للمثيرات البرانية، لا يرى أوزوبل التعلم كاستجابة آلية أو تكرار للسلوكيات، بل يعتبر التفاعل مع المعلومات عملية إبداعية تتطلب من المتعلم أن يبني المعرفة بنفسه. وفيما يعالج السلوكيون التعلم في إطار التحفيز والاستجابة، يركز أوزوبل على تفاعل المتعلم مع المعلومات التي لا تكتسب ميكانيكيا وإنما تكون ذات معنى للمتعلم بناء على تنظيمه الداخلي للأفكار والمفاهيم.

في إطار تحديد أوزوبل لآليات التعلم، تجب الإشارة إلى مفهوميه الاخرين، التعلم الاستقبالي الأصم والتعلم الإكتشافي الأصم. فالتعلم الاستقبالي الأصم يشير إلى حالة من استقبال المعلومات دون أن يكون هناك تفاعل حقيقي أو إدماج لهذه المعلومات في البنية المعرفية للمتعلم. في هذا السياق، يصبح المتعلم مجرد مستقبل سلبي للمعلومات التي لا تثير أي عملية فكرية داخلية. هذه العملية تفتقر إلى المعنى الذي ينشأ من ربط المفاهيم الجديدة بما هو موجود سلفا في الذهن، وبالتالي فإنها تعجز عن خلق التغيير الفعلي في بنية المعرفة.أما التعلم الإكتشافي الأصم، فيتعلق بمحاولة المتعلم اكتساب المعرفة عبر اكتشافها بشكل منفصل عن أي مرجعيات أو قواعد، دون أن يتوفر له الإطار المعرفي الكافي لتوجيه اكتشافاته. وهذا النوع من التعلم غالبا ما يؤدي إلى الفشل في بناء المعنى المعرفي، لأنه يفتقر إلى التوجيه أو الإشراف الذي يساعد المتعلم في دمج المعرفة بشكل فعال في بنية معرفية موجودة.

إذ لا يكفي استقبال المعلومات أو اكتشافها بمعزل عن الإطار المعرفي الذي يساعد على إدماجها. بدلا من ذلك، يشدد أوزوبل على ضرورة إحداث تفاعل ذهني داخلي دياليكتيكي بين المتعلم والمحتوى المعرفي ليتم بناء المعنى وتحقيق الاستيعاب الحقيقي.

الجواب العام الذي يقدمه أوزوبل يمكن تلخيصه في أن التعلم ذو المعنى لا يتحقق إلا إذا كانت المعلومات الجديدة قد تم دمجها في بنية معرفية موجودة بالفعل. وبالتالي، يصبح من الضروري أن يكون لدى المتعلم إطار مرجعي أو مخطط ذهني يساعده على فهم وإدماج المعلومات الجديدة. لكن هل هذه المخططات موجودة بالفعل قبل عملية التعلم، أم أنها تتشكل فقط من خلال التفاعل مع العالم الخارجي؟ هنا تكمن الإشكالية: هل المعرفة شيء خارجي يتم اكتشافه، أم هي عملية داخلية تتطور من خلال تفاعل الإنسان مع بيئته؟

إذا عدنا إلى مسألة العلاقة بين التعلم الاستقبالي والتعلم الإكتشافي، يتبين لنا أن أوزوبل لا ينتصرلأحدهما ضدا على الآخر، بل يرى أن كلا منهما له دور في عملية التعلم. فبينما يسهم التعلم الاستقبالي في تمكين المتعلم من بناء مفاهيم جديدة داخل بنية معرفية مسبقة، فإن التعلم بالاكتشاف يعزز قدرة المتعلم على التفكير النقدي ويشجعه على أن يكون أكثر استقلالية في تعلمه. هل يمكن، إذا، أن يعتبر اخرون التعلم عملية ديناميكية تتجاوز الحدود بين الاستقبال والاكتشاف؟

 عادل بوفتي – مستشار في التوجيه التربوي-